بقلم .. هكذا تحدث نصر حامد أبو زيد


"من الصعب على المسلم أن يفصل في خبرته الدينية بين التجربة الروحية وبين الأسس العقلانية التي تتبلور في وعيه تدريجيا عن عقيدته ودينه"[1]
لقد هجرنا المهاجر وبارح ديارنا بعد أن أجبره حراس التاريخ التذكاري على الإقامة لسنوات في المهجر، غادرنا المغترب بعد أن عاد لأرض المولد وخلنا أنه سوف يمكث طويلا ولكنه بفارقنا مجددا وكأن قدر المفكر عندنا أن يولد غريبا ويرحل بغتة وبمفرده ودون ضجيج. لقد غادرنا نصر حامد أبو زيد عن 67 عاما بعد أن تعرض لمحنة ليس لها مثيل في التاريخ العربي سوى محنة ابن حنبل أو مصير ابن رشد وقد ترك لنا أستاذ الفيلسوف الأندلسي في جامعة أوترخت الهولندية العديد من المؤلفات لعل أهمها هي رسالته في الماجستير التي عنوانها الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) ورسالة الدكتوراه حول فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي)، ثم كتب أخرى وهي مجموعة دراسات مثل "مفهوم النص دراسة في علوم القرآن" و "إشكاليات القراءة وآليات التأويل" وكذلك "نقد الخطاب الديني" و "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" و"الخطاب والتأويل" و"النص السلطة الحقيقة" و"الخلافة وسلطة الأمة" و" التفكير في زمن التكفير" و" هكذا تكلم ابن عربي" وأنجز كتابا عن المسألة النسوية هو" دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة" وله العديد من المقالات والمقابلات المرئية في الفضائيات والمكتوبة في المجلات والمواقع الالكترونية.
لقد عبر نصر حامد أبو زيد عن حتمية الظهور المتأخر للحس النقدي في المجال الديني داخل حضارة اقرأ واصطدم بالتفكير الصراطي والحركات الإحيائية وبين هشاشة المرتكزات التي تقوم عليها وتناقض تناقضا تاما مع الصور النمطية السائدة في الأزهر التي تتراوح بين التسليم التام والعنف التعصبي وجسد كأحسن ما يكون المفكرين الأحرار في الإسلام والشخصيات القلقة في التاريخ الانساني.
لم يمنع زمن التكفير وصكوك الغفران والتوظيف النفعي للدين الذي عاش فيه أبو زيد من أن يتوجه نحو التفكير العقلاني وحرية المعتقد وأن ينظر للتأويل والاجتهاد والتجديد في فضاء إيماني دأب على الشرح والتفسير والتقليد وأن يتبنى أطروحات علمانية دنيوية في مناخ سياسي يتنفس نوعا من التيوقراطية المستترة وأن ينتصر للدولة المدنية و"العقل هو الحل" على حساب الدولة الدينية و"الإسلام هو الحل".
يمكن اعتبار أبي زيد واحدا من المفكرين الذين انتقدوا الشأن الديني من داخله وما اعتصامه بالاتجاه العقلي في التفسير عند المعتزلة وبفلسفة التأويل وإشكالية وحدة الوجود عند ابن عربي وبمفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني سوى هرب من سطوة الاجترار والفقر المعرفي على طرق البحث والتأطير في الجامعات العربية. لم يكن هذا الكاتب المستقل منعزلا عن الحركة الاجتماعية التي كانت بصدد الحدوث في المجتمعات العربية وإنما كان خير معبر عن وعي الطبقة الناشئة بنفسها ورغبتها الجامحة في الثورة الثقافية وخلخلة الموروث وما تحليلاته الفردية اللامعة سوى رغبة عارمة في تفكيك البنية الفكرية الجماعية التي تقوم على ذهنية التحريم ورؤية ماورائية للعالم وسلم هرمي للقيم والمعايير المحددة للسلوك.
لم يسقط أبو زيد في الردود الدفاعية على خصومه ومنتقديه وابتعد عن السجالية الانفعالية التي اشتهر بها علماء الكلام في عصور الازدهار بالنسبة للعقل العربي الإسلامي وإنما أثار تساؤلات جذرية مست أصول الثقافة وطرح مسائل حيوية حركت الثوابت وشككت في أسس العلوم وبحث عن الدلالة والمعنى وأثث إمكانية رحبة لوجود الإنسان العربي في العالم دون تحفظات أو أحكام مسبقة تعيقه عن مقابلة الآخر والفعل في الحياة والمشاركة في صناعة الكونية.
إن الأمر يتعلق بمفكر يقيم دائما مسافة نقدية بينه وبين ذاته المفكرة والدين الذي يعتقده والثقافة التي ينحدر منها واللغة التي يتكلمها والهوية التي ينتمي إليها والفلسفة العامة التي يتحرك ضمنها، انه يمعن النظر في شروط الإيمان وسبل المعرفة ومناهج التفكير ويقوم بتحليل الخطاب وتطبيق أحدث نظريات القراءة.
لم يتعسف أبو زيد على النصوص التراثية من أجل أن يظهر مواطن النور كما فعل غيره من دعاة التنوير المسقط ولكنه ترك النصوص تتكلم بنفسها وتشع بأنوارها على القارئ وتفصح عما في طياتها من نفائس، لقد كان منقبا بارعا في الأغوار وكاشفا عن طاقات مطمورة لثقافة حجبت طبقات الميراث عبقريتها الفذة.
ليته كان زنديقا أو ملحدا كما اتهمه فقهاء البلاط من الوعاظ ليحررنا من أوهامنا وليحطم ما تبقى من القيم البالية بمعوله الهرمينوطيقي وليوقظنا من سباتنا الأنثربولوجي ولكنه ويا للأسف أوشك على ذلك واكتفى بتقمص شخصية الإناسي الذي أفنى عمره في سبر أعماق النفس البشرية عبر محاورة النصوص التي كتبتها في السر والعلن وينزع الهالة السحرية عن المقدس ويبحث عبثا عن العلمنة الجذرية للأديان.
اشتهر أبي زيد باعتباره القرآن مجرد نص وفي ذلك جرأة فريدة من نوعها عند قوم أفلحوا في المحافظة على طقوس الدين وضمان أمن الطرق المؤدية إلى الآخرة الدين وفشلوا في استصلاح السياسة وتدبير شؤون الدنيا وفي المحافظة على الأرض وأضاعوا حقوق الناس ومصالح الأوطان.
لم يتوقف أبو زيد عن البحث في الذاكرة المفقودة وعن عقد المقارنات والقياس بين اللغة والشعر وبين الأسلوب والمجاز وكأنه في كل ذلك يبحث عن نص أصلي كان القراء العرب الأول قد فقدوه نتيجة سجن قفص الكتابة المحدودة لثروة المعنى التي كانت تزخر بها التلاوة ومن بعدها القراءة.
صحيح أن نصر حامد قد توقف عن الكتابة وعن الإبداع ولكن حرفه واسمه لن يتوقف عن الإشعاع والتأثير وسيظل العقل العربي مدينا له بالصحوة الهرمينوطيقية التي حاول إيقاظها في الثقافة العربية بعد خلنا أنها تحولت إلى رماد، فهل نقول سلاما أيها الروح المجنحة فوق الضباب، سلاما أيها الطائر المحلق فوق الآراء الظنية والأقاويل المغشوشة؟ ألا ننادي على هذا العقل أن يعود طفلا تماما مثلما قال هو عن نفسه: "نكبر ونقرأ ونتزود بالمعرفة لكن تظل جذور تجربة الطفولة كامنة في أعماق كل منا"[2]؟